الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة عفوا... لست أنا : بقلم الكاتب كمال الرياحي

نشر في  11 نوفمبر 2015  (11:01)

عفوا... لست أنا

كمال الرياحي. تونس

  عندما كنت طفلا، كنت أحلم ان أكون شرطيا خارقا جيمس بوند القرية الذي متى عاد  اليها تختفي الثعابين والحيات وتتوارى الثعالب والعقارب والشطار الصغار ولصوص الدجاج والبيض والبهائم وعندما كبرت أصبحت اكتب نصوصا أنقذ فيها اللصوص والمجرمين الصغار من مسدسات الشرطة.

ليس من تراجيديا أفظع من قصف روح شرير صغير لم يشتد عوده ولم تغرق سكينه بالكامل في الدم.

لا أتصور العالم بلا أشرار. كم سيكون رخوا هدا العالم. حكاية مفككة مثل بعر الأكباش. لا أتصور العالم بلا قتلة لا أتصور العالم بلا ثكالي بلا حزاني بلا فصاميين بلا خونة بلا حقراء بلا نوافذ محطمة بلا اثار قذائف علي الجدرانلا أتصور رواية تبني علي أكوام من قطن.

علي دائماً أن اجر الإشرار الجرحي بعيدا قبل وصول رجال الشرطة. علي ان ادفن سكاكينهم لقتلة اخرين يأتون من بعيد تلمع عيونهم الحالمة في الظلمة وترفس اكفهم في جيوبهم عيونا اقتلعوها من الأرانب الناعمة المقرفة الروائي ليس بابا نوال يزور القراء ليلا ليفرق الحلوى.

القراء أطفال معمرون يعترضون الكاتب في أزقة القراءة المظلمة يسنون سكاكينهم ويبتسمون كقطاع الطرق. لا ينتظرون الورود والفتيات الجميلات. القراء كائنات فظيعة تعترض الكاتب لتسلب منه صاحبته او أمواله او أوراقه.

القراء اعداؤنا الحميميون. على الكاتب أن يرمي عليهم حزمةٌ من الثعابين ليمر بسلام. الكاتب عندي كائن فائض من الحيل. قاتل ناعم. تدرب علي قتل قلبه طويلا. الكتاب العاطفيون تلاميذ مدارس الراهبات بينما الكاتب الحقيقي سليل الرهبة وهناك فرق بين الرهبان والرهيب.

نحن نكتب لنندب وجه هذه الحياة لنمزق وجهها الناعم ولنرفع تنورتها لنضاجعها الى حائط ونشنقها بحمالات صدرها على؟ بوابة حانة او مسجد أو كنيسة أو مدرسة.

يبدأ الأدب لحظة قلع ضرس العقل ولحظة ينبت ضرس الجنون ما عدا ذلك وعظ وسجع كهان وأناشيد بدو وأغاني رعاة البقر. الكتابة همهمات صيادي الخنازير وشهوة الرمح المقذوف من الكائن البدائي نحو بقر الوحش الضخم. مازلت الى الان في مرحلة إماتة القلب. أقلبه على الصفيح العاطفي واستمتع برائحة شوائه. مرتبة أولى من مراتب الشر الحق الذي عليه أن يصيب العالم ويعلن وجودي.

أحب، الآن، من الدجاج والسمان أجنحته. وطعامي المفضل هو حساء أجنحة الطيور. بقدر ما كنت أكره النسر في السماء وصورته وهو يبقر الجيفة في الأفلام الوثائقية. أراني اليوم أمزق هذه الحياة الميتة التي رمى بها الاله الينا جيفة زرقاء وقال لنا تمتعوا بها. لا شيء يستحق أن نشمه بعمق غير روائح شواء القلوب. ما عداه تشكيلة من خلاصة براز الكهنة والضعفاء واللصوص الفاشلين عديمي الموهبة.

لصوص القلوب الخاملة عشاق اللحظة التافهة أصوات الغربان الناعقة على الجريمة الفاتنة. جريمة أن نكون هنا على صدر بقر الوحش الضخم؛ أكداس اللحم الجبان نغرس فيه مناقيرنا الحادة لست بعد طائرا حرا بما يكفي لأطير نحو الشمس وأفلقها فوق رؤوسكم. لا شيء محترم في الضوء. لا شيء ذو معنى. لا شيء مع ذلك الرقيب التافه مخبر الالهة عنا.

قطع- مع تغيير نبرة الخطاب-

عندما بدأت اكتب هذا النص كنت أقصد به مداخلتي بالجزائر لكني اكتشفت أنني منذ السطر الأول نسيت الامر وعدت لكتابة روايتي "عام بلا منتحرين" التي اكتبها منذ سنة وأن هذا الصوت الذي سمعتموه ليس لي إنما للروائي الأمريكي ديفد فوستر والاس ذلك الكاتب المنتحر الذي اكتب رواية عنه. هكذا تنحرف لحظة الكتابة من الانشغال بالواقع والوقائع لتلتحق بالمتخيل والتخييل.

حركة أخرى من حركات التخييل، تختلف عن تدوير الوقائع روائيا إنما هيمنة التخييل عل الواقع. بدأت هذه الرواية بمشهد قريب من هذا فقد كنت اريد كتابة بورتريه عن ديفد فوستر والاس في ذكرى انتحاره فوجدتني اكتب رواية. نص ملعون يرفض ان أكتب خارجه. يلتهم كل وقائعي ويومي. يرمي بظلاله على كل حياتي فلم يعد ديفد فوستر والاس مجرد شخصية روائية او تخييلية إنما تحول إلى رفيق بيت وذوق وحياة.

منذ سنة أشعر أن هذا الرجل الملعون هو الذي يأكل طعامي ويختار ما يريده فتغير ذوقي في الطعام وتغيرت شهواتي وتغير ذوقي في اللباس وفي الغزل وفي ردود فعلي. وفي رؤيتي للعالم وفي رؤيتي للصداقة وللمرأة وللحب. تغير كل شيء مع رجل الخيال هذا.

أصبحت أرى عطوره في بيتي ومناديل رأسه ومضرب التنس وسجائره وقمصانه الدجينز وأصبحت أشد رأسي بالمنديل من أثر الشقيقة وطرق بابي الاكتئاب لأول مرة من قراءته ومتابعة منجزه وفيديواته. أصبحت أحدث أصدقاءه وأقرأ لهم وكثيرا ما كنت أنقم على جوناثان فرنزن صديقه الحميم وانا اراها اليوم يتباهى بانجازاته التي لم تكن ترى عندما كان والاس حيا. أصبحت أبحث عن سر انتحار والاس بين اصدقائه والاشخاص المحيطين به؛ أبوه وزوجته كارين غرين وصديقه جوناثان، تستبد بد فكرة أن واحدا منهم قتل، أن واحدا منهم دفعه الى الانتحار.

لا أكاد أخرج من هذه الرواية الواقعة. عرفت ديفد فوستر والاس من سنوات عبر مجلة كنت طلبت للكتابة فيها فوجدتني اقرأ له أول مرة خبرا عن انتحاره. جمعت ما جمعت من اخباره ونصوصه وصوره دون أن أكون واعيا بذلك حتى شاءت الظروف ان اترك بيتا يوما وأرحل الى بيت آخر وأنا أحمل أدباشي اعترضني كيس أسود للقمامة جمعت فيه عشرات الصحف والمجلات التي تتحدث عن والاس. هكذا عاد الي المنتحر من جديد ليدفعني الى كتابة بورتريه عنه لم اكتب منه سوى جملة واحدة لتنحرف الكتابة نحو كتابة الرواية. وها انني أسير ذلك المنتحر السعيد. روائي تجريبي كبير قيل إنه حدث في المشهد الروائي الامريكي فاذا به يؤسس لحدث اكثر ثقلا؛ حدث انتحاره. كم سأبقى اكتبه وكم سأبقى ألف دماغي في فولاره الشهير. لست أدري. تلك سطوة المتخيل على الواقع.

قطع – عودة النبرة الأولى-

أنت. – يتوجه الخطاب نحو أحد الحضور بالقاعة-

نعم أنت أيها الجالس أمامي.

ماذا تفعل هنا أيها الأحمق؟

جئت تسأل عن الكلب ؟

قتله. نعم قتلته

ما فائدة كلب على الشاطئ إذا لم يغرق. ما فائدة كلب في الشرفة إذا لم يقفز؟ ما فائدة وجودك معي إذا كنت تخبز كل يوم خبزا باردا؟ لا تغمسه يوما في سم الفئران أو تطعنني بالسكين الذي تقطع به الخبز كل يوم وتتخلص مني لتضرط بحرية وحدك في هذا الجحر وتأتي بقحباتك الصغيرات والكبيرات وتنكحهن بحرية على السرير المضمخ بدمي.

هل جربت لذة أن تضاجع امرأة فوق جثة زوجها. أو سريره أو بنطاله أو قميصه؟ ما الذي يجعلك تتمسك بالحياة وأنت كالكل تأكل وتروث. تأكل وتتبرز وتضاجع في السر؟

خذ اذا. من يضاجع في السر يصاب في آخر حياته بالكساح. ستصاب بالشلل أيها المعتوه وقحباتك الصغيرات سيبحثن عن آخر ربما أكون أنا. لم تنظر إلي هكذا؟ لماذا لا ترميني بذلك السخان الذي أمامك. لكنك جبان. جبان. اعلموا جميعا ان هذا جبان.

سترميه على صدري، ان رميته، ولن تصيب رأسي. أنت أجبن من أن تهشم هذا الرأس الذي يشتمك. كيف أجعلك تقتلني. قلي كيف؟ أرأيت كيف قتلت الكلب أذهب واحفر في الحوص الثالث في الشرفة ستجده يضحك. مات وهو يضحك. كلب يفتح فمه ويضحك وأنت الان بائس مثل خزانة أرملة.  قم واطلق علي النار. لماذا تلتفت إلى جنبيك، أنت نعم أقصدك أنت لا غيرك. سأخلصك من حيرتك هذه. انا من سيفعل.

يدخل المحاضر يده في جيب سترته الداخلي كمن سيسحب مسدسا والغضب باد عليه ويخرج قلما يرسم به خطا على الورقة التي أمامه.

يبتسم: عفوا عاد صوت ديفيد فوستر واستحوذ على الكلام كنت ارى مكانك الروائي الأمريكي جوناثنان فرنزن صديق فوستر الحميم

عنوان المداخلة : سطوة المتخيل على الواقع

مداخلة الكاتب كمال الرياحي كاملة في ندوة" الواقع متخيلا" بالصالون الدولي للكتاب بالجزائر